نظم مركز التشريعات الإسلامية والأخلاق بمؤسسسة قطر للتربية والعلوم ندوة لمدة ثلاثة أيام ما بين الثامن والعاشر من شهر يونيو 2013، بمقر المركز في المدينة التعليمية بالدوحة. وقد اشترك في الندوة عدد من العلماء والمفكرين المتمكنين، ممن جمعوا بين الخبرة النظرية والممارسة العملية (انظر لائحة المشاركين في ختام هذا التقرير). وقد طلبت إدارة المركز من المشاركين تركيز النقاش حول سؤالين، هما:
o ما هي الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية؟
o وما هي الحدود الأخلاقية لحرية التعبير في الإسلام؟
وقد تفرّعتْ من السؤالين أسئلة أخرى عديدة، تنصبُّ على القيم السياسية في الإسلام، والتصور الإسلامي للدولة والدستور والقانون والحريات، في سياق التحول من حكم العرف إلى حكم القانون، ومن الدكتاتورية إلى الديمقراطية في عدد من الأقطار الإسلامية. وقد ساد الانسجام بين المشاركين في جل القضايا الكبرى التي أثيرت للنقاش، وظهر اختلاف في وجهات النظر وتوتر فكري أحيانا. ويرجع الخلاف بين المشاركين في جله إلى صعوبة التعاطي بين الثنائيات الضدية التي نوقشت في الندوة. ومن هذه الثنائيات: الحرية مقابل احترام الغير، والإكراه مقابل الإقناع، والمبدئية مقابل مراعاة السياق، والخلُق مقابل القانون، والمساواة مقابل الخصوصية، والدين مقابل العلمانية، وعامة الشعب مقابل الخواص (أهل الحل والعقد مثلا)...الخ
وفيما يلي خلاصة مُكثَّفة لأمهات القضايا التي أثيرت، ومسار الإجابات عليها، سواء اتفق المشاركون بشأنها أو اختلفوا في ذلك، في انتظار مزيد من البحث والتنقيب في المستقبل.
السؤال الأول: ما هي الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية؟
من القضايا التي أثيرت تحت مظلة هذا السؤال تعريف الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، وما هو أساس المواطنة في هذه الدولة: هو الدين كما هو حال الامبراطوريات القديمة، أم الجغرافيا كما هو حال الدول الوطنية المعاصرة؟ وما معنى "المرجعية الإسلامية" في هذه الحالة: هل هي أخلاقية-قانونية، أم هي ثقافية-رمزية فقط؟ وما علاقة كل ذلك بمسألة تطبيق الشريعة ومكانتها في الدساتير والقوانين.
وفي تعريف "الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية" وملامحها، مال المشاركون في الندوة إلى أن هذه الدولة المدنية يجب أن تتسم بسِمات تبين شخصيتها المتميزة، ومن هذه االسِّمات:
أولا: أنها دولة ديمقراطية، تتأسس على حرية الشعب في اختيار من يحكمه، فهي ليست دولة عسكرية قائمة على القهر المادي، ولا دولة دينية (ثيوقراطية) قائمة على القهر المعنوي. وهذا يميزها عن الدكتاتوريات السلطانية القديمة، وعن الدكتاتوريات الشمولية المعاصرة.
ثانيا: أنها دولة مساواة بين المواطنين، دون تطفيف أو ازدواجية في المعايير. فلا يصلح أن يكون في هذه الدولة تمييز ضد الناس على أساس الدين، سواء فيما يتعلق بالحقوق الشخصية مثل حرية العبادة، أو الحقوق العامة مثل الحق في تولي أي منصب سياسي. وقد انتقد عدد من المشاركين التنصيص في بعض الدول على أن رأس الدولة لا بد أن يكون مسلما، ورأوا ذلك تمييزا في حقوق المواطنة، بينما عبر أحد المشاركين عن موافقته على ذلك التنصيص في الدول التي لا يوجد فيها عدد معتبر من المواطنين غير المسلمين.
ثالثا: أنها تلتزم بالقيم والمقاصد الإسلامية، وتستند إلى الشريعة الإسلامية في نظامها الدستوري والقانوني، وهذا ما يمنحها شخصيتها المتميزة التي تميزها عن غيرها من الديمقراطيات التي لا تعترف بأي مرجعية للدين في نظامها الدستوري والقانوني. فالشعوب في الدول ذات الغالبية المسلمة تريد الاستمداد من قيم الإسلام وقوانينه في نظامها السياسي، رغم اختلاف معنى ذلك في أذهان الكثيرين.
وقد أثار هذا المعيار الثالث أسئلة كبرى حول مسألة تطبيق الشريعة. فقد اتفق المشاركون بأن غالبية الناس في الدول ذات الغالبية الإسلامية تريد الديمقراطية والشريعة في الوقت ذاته، ولا ترى تناقضا بينهما، وإن كانت هذه الغالبية غير متفقة-حتى الآن- على معنى "الشريعة" التي تريد، وحدود الديني والدنيوي في النظام السياسي الذي تصبو إليه، ومكانة الشريعة في الدساتير والقوانين المرجوة، وحدود تدخل الدولة باسم الدين في حياة الناس العامة والخاصة... وقضايا أخرى كثيرة تحتاج إلى تحديد وتفصيل.
وقد اتفق المشاركون على أن مفهوم الشريعة ضاق كثيرا في العصر الحديث، حتى أصبح منحصرا في أذهان كثيرين في الجانب القانوني من الإسلام، بل في القانون الجنائي منه تحديدا، وقد أضر ذلك كثيرا بميزان الأولويات الأخلاقية والسياسية في المجتمعات الإسلامية، وأسهم في حالة الارتباك والإرباك السائدة، وعدم الوضوح النظري حول مسألة تطبيق الشريعة. ومن مظاهر هذا اللبس الخلط بين الشق الأخلاقي من الشريعة الخاضع لسلطة الضمير وعلاقة العبد بربه حصْراً، والشق القانوني من الشريعة الذي تُلزِم السلطة السياسية والقضائية الناس به لأنه يدخل ضمن حقوق الناس. وقد غلب في الندوة القول القائل بضرورة الفصل بين الأخلاق والقانون، بين المعصية والجريمة.. لكن عددا من المشاركين عبروا عن صعوبة تحديد الحد الفاصل بين الاثنين، وأهمية مراعاة السياق الثقافي والاجتماعي والسياسي في هذا المضمار. فقد يحْسُن ترْكُ أمر لضمير الفرد وسلطان المجتمع في دولة بعينها، بينما يتعيَّن تدخل سلطة القانون في الأمر ذاته في دولة أخرى، لما يترتب على هذا الأمر من ارتباك اجتماعي، أو إضرار بالسلم الأهلي، أو هدر لحقوق بعض المواطنين. لكن المشاركين مالوا إلى الرأي القائل بتقليص مساحة التقنين، وترك الأمور لسلطة الضمائر ما أمكن ذلك: صيانة لحريات الناس، وضمانا لصدق التدين، ومنعا للسلطة السياسة من التضخم والشمولية والدكتاتورية.
ولم يصل المشاركون في الندوة إلى قولٍ فصْلٍ في قضية السلطة التأويلية والتشريعية، لكن أغلبهم مال إلى أن الأمة بمجموعها هي صاحبة السلطة التأويلية للنص الإسلامي، وهي صاحبة السلطة التشريعة من خلال نوابها في البرلمانات، مع الاستفادة من علماء الشريعة وغيرهم من ذوي الخبرة الخاصة، دون منحهم حق مصادرة خيار الأمة. بينما عبر بعض المشاركين عن نوع ما من سلطة التشريع يجب إسناده إلى علماء الشريعة، وإن لم يبينوا الصيغ الإجرائية لذلك بيانا شافيا. ولم يتفق المشاركون على مكانة الشريعة –بمعناها الواسع- في دستور الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، هل تكون هي "المصدر الوحيد"، أم "المصدر الأساسي"، أم "مصدرٌ أساسيٌّ"، أم "مصدرٌ" (دون تقييد)... مع وجود رأيٍ لأحد المشاركين يقول بعدم الحاجة إلى أي تنصيص على مصادر التشريع في الدساتير، باعتبار المجتمع هو صاحب السلطة التشريعة والتأويلية، وسيعبر نوابه عن نظام قيمه تلقائيا فيما يسنونه من قوانين. ولم ير المشاركون بأسا في تعدد مصادر القانون في هذه الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، بما في ذلك تقنين بعض الأعراف الاجتماعية، والاستمداد من قوانين الدول الأخرى، مسلمةً وغير مسلمة، ما دام هذا الاستمداد متقيدا بثوابت الشريعة الإسلامية. وقد عبر مشارك عن ذلك بالقول إن جوانب من العلمانية يمكن دمجها ضمن النظام السياسي والقانوني للدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية، من غير تحديدٍ لتلك الجوانب تحديدا واضحاً.
ولم يتفق المشاركون في تقييمهم للتجربة السياسية الإسلامية تاريخيا، حيث مال بعضهم إلى الشدة في نقدها، واعتبارها انتكاسة وتراجعا عن المبادئ والقيم السياسية الإسلامية منذ نهاية الخلافة الراشدة، ونقدوا ما اشتملت عليه من تهميش غالبية الناس في القرار السياسي، والتمييز ضد غير المسلمين من رعيتها.. بيما دعا مشاركون آخرون إلى عدم القسوة على تلك التجربة، ومحاكمتها ضمن سياق زمانها، والاعتراف ببعض ما فيها من إيجابيات، ومنها ضعف وطأة الدولة على المجتمع، بخلاف الدول الشمولية المعاصرة. أما التراث السياسي الإسلامي المكتوب فقد مال جل المشاركين إلى اعتباره مُنْبتًّا إلى حد كبير عن مصادر الوحي والقيم السياسية الكبرى في الإسلام، ومتكيفا مع واقع القهر السياسي، فهو فقه ضرورات محصور في سياق زمانه، ولا يصلح أساسا لبناء دولة العدل والحرية اليوم.
السؤال الثاني: ما هي الحدود الأخلاقية لحرية التعبير في الإسلام؟
في الإجابة على هذا السؤال أكد المشاركون على أن حرية التعبير –شأنها شأن كل الحريات- حق طبيعي ومنحة إلهية، وليست منة من إنسان على آخر.. وأن الأصل في الحرية أنها مطلقة ما لم تؤذ الآخرين. كما أكدوا على الحاجة إلى تبني مسألة الحرية تناولا أخلاقيا مبدئيا، لا لمجرد ردود الفعل على اتهامات الغير، أو للتباهي السياسي والإعلامي. وطالب جل المشاركين المسلمين بالانسجام الأخلاقي في مواقفهم من خلال احترام عقائد الآخرين ومشاعرهم، كما يطالبون الآخرين بالاحترام. فقد لا تقدس مقدسات الآخرين، لكن ذلك لا يعفيك من احترام مشاعرهم وتجنب استفزازهم. وفي عالم التواصل الدولي الحالي لم يعد الانسجام الأخلاقي في هذا المضمار واجبا أخلاقيا فحسب، بل أصبح أيضا مصلحة ملحة لحماية الأقليات الإسلامية المنبثة في أرجاء العالم.
وقد ثارت مسألة حرية العقيدة وقتل المرتد في ثنايا النقاش حول حرية التعبير، واتفق المشاركون على وجود حاجة ماسة إلى مراجعة الفقه الموروث وتجاوزه في قضية الحرية الدينية، وتبني موقف مبدئي أكثر انسجاما مع القرآن الكريم ومع المعايير الدولية المعاصرة، وأكدوا على ضرورة التمسك بمبدإ "لا إكراه في الدين" (سورة البقرة الآية 256) بكل ما يترتب على ذلك في قضايا العقائد والشعائر والأخلاق وغيرها.. وميز أحد المشاركين بين ما دعاه (الردّة القاصرة) أي التي لا تتجاوز الموقف النظري السلبي من الإسلام، وبين (الردّة المتعدية) التي يترجمها صاحبها إلى فعل أو قول مؤذ للمجتمع أو مسيء للآخرين، وهو تمييز استحسنه المشاركون الآخرون. فالأصل التمييز بين الموقف النظري والسلوك العملي، ومواجهة الرأي بالرأي والفعل بالفعل.
وقد بسط المشاركون عددا من الحدود الأخلاقية التي فرضها الإسلام على حرية التعبير ومنها: الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلم، والنيل من سمعة الآخرين في غيابهم ظلما، سواء كان ذلك بالحق (وهو الغيبة) أو بالباطل (وهو البهتان)، وأذية الناس في حضورهم بالسب أو الفُحْش في القول، والسخرية والاستهزاء، والمراء واللَّدَد في الخصومة، وتتبُّع العورات.
وقد أثيرت في هذا السياق مسألة ردود الأفعال التي تصدر من المسلمين على الاستفزازات والإساءات لمقدساتهم الدينية. وبيَّن المشاركون أن المسؤولية الأكبر تقع على عتاق المستفزين، لكن المطلوب من المسلمين تغليب الفعل على الانفعال، وترويض أنفسهم وأسماعهم على حرية التعبير حتى في القضايا التي لم يعتادوا حرية التعبير فيها، وعدم الانجرار وراء الاستفزاز، وتجنب استنزاف طاقتهم في الردود على المستفزين.
سياق الحاضر وآفاق المستقبل
وقد ظهرت في الندوة آراء من بعض المشاركين المنخرطين في العمل السياسي تدعو إلى مراعاة سياق التحول الحالي في بعض الدول الإسلامية دون تضحية بالقيم والحريات الأساسية، وإلى التمييز بين المؤقت والدائم في هذا السياق. فقد تضطر الديمقراطيات الوليدة في هذه المجتمعات إلى إجراءات ظرفية لا تنسجم مع المتعارف عليه في الظروف الطبيعية –مثل منع المشاركين في الأنظمة المستبدة السابقة من تقلد المناصب العامة مؤقتا- دون أن يعني ذلك تنازلا عن المبادئ الديمقراطية.. فقوانين تحصين الثورة (أو العزل السياسي) قيود ضرورية في نظر هؤلاء، لكنها مؤقتة. بينما ظهرت آراء أخرى تحذر من مصادرة الدساتير بالتكثيف من القوانين المقيدة لموادها المتعلقة بالحريات العامة، وتلحّ على أن صيانة الحرية بالضبط والتقييد لا يجوز أن يتحول إلى إيغال أو مبالغة في هذا السبيل.
وفي ختام الندوة اقترح المشاركون على إدارة مركز التشريعات الإسلامية والأخلاق الاهتمام مستقبلا بجملة من القضايا ذات الأهمية الخاصة في سياق التحول الحالي في العالم الإسلامي. ومن هذه القضايا:
o الشريعة والحرية.
o الكرامة الإنسانية.
o الشورى وتطبيقاتها المعاصرة.
o مراعاة السياق في تطبيق القيم.
o خيار الأمة كقيمة أخلاقية.
o احترام القوانين.
o المواطنة والأمة.
o الوحدة والاختلاف.
o الهويات المتعددة.
o قضايا الأمن القومي.
o التنمية والأخلاق.
o الأقليات المسلمة
o الهجرة والحدود.
o الولاء للدولة والأمة.
o الوحدة الإسلامية.
o مكانة المسلمين في النظام الدولي.
o المسألة الطائفية.
o القانون الجنائي الإسلامي.
المشاركون في الندوة
o الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
o الدكتور حسن عبد الله الترابي، مفكر إسلامي وسياسي سوداني.
o الدكتورة رجاء ناجي، أستاذة بجامعة محمد الخامس في المغرب.
o السفير إبراهيم رسول، سفير جمهورية جنوب إفريقيا في الولايات المتحدة الأميركية.
o الدكتور جون أسبوزيتو، أستاذ الأديان والعلاقات الدولية بجامعة جورج تاون في واشنطن.
o الدكتور محمد هاشم كمالي، رئيس المعهد الدولي للدراسات الإسلامية المتقدمة في ماليزيا.
o الدكتور عبد المجيد النجار، عضو االمجلس الوطني التأسيسي في تونس.
o الدكتور طارق رمضان، مدير مركز التشريعات الإسلامية والأخلاق في الدوحة.
o الدكتور جاسر عودة، أستاذ بكلية قطر للدراسات الإسلامية.
o الأستاذ شوقي الأزهر، نائب مدير مركز التشريعات الإسلامية والأخلاق في الدوحة.
وقد أدار الندوةَ وكتب هذا التلخيص لمضامينها: الدكتور محمد المختار الشنقيطي، أستاذ مشارك للإسلام والأخلاق السياسية بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق.
إضافة تعليق جديد