أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
بين المدينة "الفاضلة" والمدينة "الذكية"
(1) المدينة في الفاضلة: الخيال الفلسفي والمشروع الأخلاقي
د. محمد غالي
أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام
مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق
كلية الدراسات الإسلامية
جامعة حمد بن خليفة، قطر
المثال المنشود وحلم المدينة الفاضلة
شكل نموذج "المدينة الفاضلة"، أو اليوتوبيا (utopia) ، والتي فسرها البعض لغوياً بمعنى المكان الطيب أو المكان المتخيل غير الموجود في الواقع، المثال المنشود في أحلام ومخيلة البشر، على مر العصور، حيث يعيش البشر حياة خالية من المنغصات والنقائص التي يعج بها الواقع المعيش ويتمكنون من تحصيل أهداف وغايات كبرى، مثل طيب العيش وتحقيق العدل وتحصيل السعادة، كما تصوروها وحلموا بها. فإذا كانت نظريات فلسفة الأخلاق تسعى إلى تحقيق السعادة على مستوى الفرد، فالمدينة الفاضلة تمثل نموذج تحصيل السعادة في صورتها الجماعية. وفي مقابل اليوتوبيا، وُجدت كتابات عن نموذج المجتمع الفاسد أو الديستوبيا (dystopia) ، حيث يتم استخدام القدرات الخيالية لتضخيم واقع مرير ومخيف بهدف إظهار بشاعته أو للتحذير من مخاطر مستقبلية. وحاولت بعض الكتابات الحديث عن المفهومين معاً؛ أعني اليوتوبيا والديستوبيا.
وحتى نضع الأسئلة والإشكالات الأخلاقية التي يطرحها نموذج "المدنية الذكية"، بوصفه أحد أهم التطبيقات التقنية للذكاء الاصطناعي، في إطارها التاريخي الأوسع، فسوف يتم النظر إلى المدنية الذكية باعتبارها امتداد معاصر لتاريخ طويل من الأفكار والنقاشات السابقة حول نموذج المدينة الفاضلة أو اليوتوبيا وما يقابلها من نموذج المدينة الفاسدة أو الديستوبيا.
الأعمال التاريخية
لا تكاد تخلو حضارة من حضارات الأمم المختلفة من تصورات وكتابات حول نموذج المدينة الفاضلة. فمن أشهر ما كُتِب في هذا الباب في التراث اليوناني كتاب "جمهورية أفلاطون (Plato’s Republic)"
والذي كان له تأثير تاريخي هائل، حتى صار مرجعاً لجُلِّ مَنْ كتب في هذا الموضوع لاحقاً. ومِن أشهر مَن تفاعل مع أفكار أفلاطون وصَحْبه من فلاسفة اليونان في هذا الميدان، الفيلسوف المسلم أبو نصر الفارابي (ت. 339/950) والفيلسوف الفقيه، أبو الوليد ابن’ رشد (ت. 595/1198). ويُعد كتاب الفارابي "آراء أهل
المدینة الفاضلة ومضاداتها"، من أشهر الأعمال الفلسفية التي كتُبت خصيصاً في هذا الموضوع.
أما أصل النص العربي لتعليق ابن رشد على جمهورية أفلاطون فلا يزال مفقوداً،
ولم تبق إلا ترجمته العبرية التي نُقِلت إلى الإنجليزية ونُشِرت في خمسينيات القرن العشرين، ثم نُشرت ترجمة عربية للنص الإنجليزي فيما بعد. وفي التراث الإسلامي إشارات متناثرة كثيرة ذات صلة بموضوع المدينة الفاضلة وإن لم تنتظم في شكل أعمال أو كتب مستقلة، كما هو الحال في "رسائل إخوان الصفا" وكتابات محيي الدين بن عربي (ت. 638/1240) وابن خلدون (ت. 808/1406). وقد عد البعض رسالة "الغفران" لأبي العلاء المعرّي (ت. 449/1057) ضمن هذا النوع من أدب اليوتوبيا والديستوبيا. وتاريخياً، تُعد رواية توماس مور (Thomas More) (ت. 1535) أول عمل أدبي يحمل مصطلح "يوتوبيا" في عنوانه، وقد نُشرت ترجمة عربية للكتاب تحت عنوان "يوتوبيا توماس مور" في عام 1974.
الأعمال الحديثة
وفي العصر الحديث، توالت الكتابات حول هذا الموضوع واتخذت أشكالاً وأنماطاً مختلفة حتى تشكَّل مجال معرفي مستقل يهتم بهذا النوع من الكتابات تحديداً، وله مؤسساته ومجلاته الأكاديمية، وهو ما يسمى بـ"دراسات اليوتوبيا (Utopian Studies)". وقد تنوعت هذه الكتابات، ما بين الكتابات الفلسفية والروايات الأدبية وقصص الخيال العملي، وما بين التركيز على نموذج المدينة الفاضلة أو النموذج المعاكس أو المناقض، أو "مضاداتها" وَفق تعبير الفارابي. وإذا ما نظرنا إلى مدى مناسبة هذه الكتابات لمجال الذكاء الصناعي، وتحديداً فكرة المدينة الذكية، فلا بد من التنويه بالكاتب الإنجليزي ألدوس هكسلي (Aldous Huxley) (ت. 1963) الذي نشر روايته "Brave New World" (عالم شجاع جديد) عام 1932 والتي تمت ترجمتها إلى العربية تحت عنوان "العالم الطريف" عام 1946.
الأعمال الحديثة
وبعد مرور حوالي ربع قرن، شهد خلالها العالم أحداثاً جساماً مثل الحرب العالمية الثانية، كتب هكسلي عملا جديدا بعنوان "Brave New World Revisited"، كنوع من التذييل والتعقيب على روايته الأولى والنظر فيما إذا كان العالم في طريقه بالفعل إلى الديستوبيا التي تخيلها وتنبأ بها سابقا. وقد نُشر كتابه هذا في عام 1958. وهناك أيضا كتابات غربية في التأريخ لأدب اليوتوبيا والديستوبيا وقد نُشرت ترجمات عربية لبعض هذه الأعمال.
وقد ضمت المكتبة العربية الحديثة أعمالاً صنّفها البعض ضمن هذا الحقل من الكتابة، منها كتاب "أم القرى" لعبد الرحمن الكواكبي (ت. 1902) و"الطعام لكل فم" لتوفيق الحكيم (ت. 1987) و"جمهورية فرحات" ليوسف إدريس (ت. 1991). ويُعد كتاب سلامة موسى (ت. 1958) "أحلام الفلاسفة" أحد أهم الأعمال التي تعاطت بشكل مباشر مع كلاسيكيات اليوتوبيا التاريخية مثل "جمهورية أفلاطون" و"المدينة الفاضلة" للفارابي.
سؤال الأخلاق
ظل سؤال الأخلاق مركزياً في كل ما كُتب تقريباً عن اليوتوبيا والديستوبيا في الأزمنة القديمة والحديثة. ذلك أن القاسم المشترك لهذه الأعمال هو البحث عن مدينة تسود فيها مجموعة من الأخلاق والقيم والفضائل، والتي قد تتجسد أحياناً في تعاليم دين معين أو مذهب بعينه، حتى يظفر أهل هذه المدينة بالعيش الطيب. ولا يمكننا في هذا المقام أن نحصر كل القضايا الأخلاقية التي عالجتها هذه الكتابات عبر العصور، لكننا سنحاول إبراز بعض القضايا الرئيسة وتلك التي تتعلق بنموذج المدينة الذكية، ومنها:
- العدالة: انشغل أفلاطون في "الجمهورية" بشكل مركزي بسؤال العدالة على المستوى الفردي، فعالج أسئلة من قبيل: ماذا يعني أن يكون الفرد عادلاً أو أن يحيا حياةً عادلة؟ وهل الحياة العادلة أمر مرغوب فيه، أم أن الأصلح للفرد أن يكون ظالماً؟ كما اهتم بمفهوم العدالة على المستوى الجماعي والسياسي، فطرح أسئلة متعددة، من بينها: ما الترتيبات الدستورية المطلوبة حتى يتحقق العدل على مستوى الدولة؟ وكيف يمكن تأسيس ورعاية نظام عادل للحُكم؟ وكيف ولماذا تفشل بعض المجتمعات في تحقيق العدالة؟ وظل مفهوم العدالة موضوعاً مشتركاً لكتابات اليوتوبيا بعد ذلك على مر العصور. وقد ذكر الفارابي في خصال رئيس المدينة الفاضلة "أن يكون بالطبع محباً للعدل وأهله ومبغضاً للجور والظلم وأهلهما".
- الدين: فيما يتعلق بالدين والقيم المرتبطة به، مِثل توقير الإله وتعظيمه، نجد فروقا واضحة بين تناول الأعمال الكلاسيكية والكتابات المعاصرة. فالكتابات القديمة يظهر فيها الدين، وما يرتبط به من قِيَم وعقائد، مكوناً رئيساً من مكونات المدينة الفاضلة. ففي "جمهورية أفلاطون"، لا مكان لعمل شعري أو أدبي، مهما علا شأنه بين العامة والخاصة، يصور الآلهة والأبطال بأية نقيصة أو صفة مشينة، مثل الكذب والخداع والضعف واقتراف الشرور. ذلك أن الإله لا يكون منه إلا الخير. وبالتالي، يلزم تنقيح وتعديل كل الأعمال الأدبية حتى تكون داعية للفضائل فقط. بل وصل الأمر إلى حد الدعوة لإقصاء الشعراء عموما من المدينة الفاضلة واعتبار شاعر اليونان الشهير "هوميروس" العدو الأول. أما في الكتابات الغربية المعاصرة، فنلحظ تغيرات واضحة في هذا الصدد تعكس واقعاً قد تغير بالفعل. فبالرغم من أن هكسلي حاول في كتابه "عالم شجاع جديد" تصوير ديستوبيا يحل فيها ظِلّ "هنري فورد" محل الإله ويسود فيها التحرر الجنسي، إلا أن الكتاب قد لقي رواجاً بين طلاب الجامعة في الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الخمسينيات، بل وحاول البعض تصوير الكتاب على أنه تجسيد لنوع الحياة التي يريد أن يحياها الناس بالفعل. وفي كتابات المسلمين الأوائل على وجه الخصوص، فالأمر أكثر وضوحاً وجلاءً. فالفارابي يبدأ كتابه بالحديث عن الله بوصفه "الموجود الأول" و عن عظمته وجلاله ومجده-تعالى- وعن ضرورة نفي الشريك والضد والحد عنه. كما يتحدث عن الوحي ورؤية المَلَك وأن النبوة أسمى مراتب الكمال الإنساني، إلى غير ذلك من القضايا التي تضع فكرة المدينة الفاضلة ضمن تصور ديني عقدي متماسك. وفي "رسالة الغفران"، قدم المعرّي تصوره لليوتوبيا، ممثلة في الجنة، والديستوبيا، ممثلة في النار، في إطار الثواب والعقاب الأخرويين، وهما جزء أصيل من إيمان المسلم بالدار الآخرة وما فيها من ثواب للمحسنين وعقاب للعصاة المذنبين. ومصطلح "الغفران" ذاته الموجود في العنوان يشير إلى الفكرة المركزية لدى الكاتب، وهي مناقشة مَن فاز بالمغفرة ومَن حُرِمها في الدار الآخرة. كما نرى هذا المنحى الديني واضحاً في استخدام الكواكبي "أم القرى" عنواناً لكتابه، وهو اللفظ القرآني لمدينة مكة المكرمة ذات القدسية والرمزية الدينية في قلوب المسلمين والتي اختارها مكاناً يجتمع فيه ممثلي الأمة الإسلامية للنظر في مشاكلها وأزماتها.
- العلم والتكنولوجيا: قد يمكن القول، بشيء من التأويل البعيد، بأن طريقة تربية "الأوصياء الشباب (young guardians)"، وهي الطبقة التي تحتل قمة هرم المجتمع في "جمهورية أفلاطون"، تبدو قريبة من تقنيات "غسيل المخ (brain washing)" المقدمة في ديستوبيا الخيال العلمي، وذلك لما في هذه الطريقة من طابع القولبة والتنميط ومحاولة السيطرة على طريقة التفكير وتشكيل الشخصية. إلا أن دور العلم والتكنولوجيا في تصورات المدينة الفاضلة قد تعاظم بشكل كبير في الكتابات الحديثة. ففي كتاب هكسلي "عالم شجاع جديد"، يتم استخدام تقنيات علمية، مثل التلقيح الصناعي، لخلق أطفال ذوي خصائص وراثية معينة تناسب الطبقة التي ينتمون لها في المجتمع، وعند البلوغ يتم تعريضهم لجرعات كيمائية ومؤثرات خارجية أخرى بهدف السيطرة على مشاعر الحب والكره لديهم تجاه أشياء بعينها مثل الكتب والزهور وضوء الشمس والظلام. كما يتعرض سكان المدينة لعلاجات هرمونية تجعلهم يشعرون بما يشبه الخوف والغضب ... إلخ. وبالتالي، نحن أمام تصورات يتسع فيها مجال التقنيات العلمية ليتخطى فكرة المدينة ونوع الرفاهة المنشودة فيها ليشمل كينونة الإنسان ذاته الذي يتم تخليقه ومن بعد ذلك تشكيل شخصيته وتوجيه مشاعره وفق تدخلات تقنية مختلفة. ولذلك تبنى عدد من الباحثين القول بأن أهم الدروس المستفادة من كتابات ديستوبيا الخيال العلمي يتمثل في ضرورة وضع العلم تحت المراقبة، وذلك بهدف ترشيد استخدام تقنياته حتى لا يعود في نهاية الأمر سبباً لشقاء البشر بدلاً من سعادتهم.
- الرؤية الشاملة: يشكل أدب اليوتوبيا في كل صوره تقريباً، وخاصةً في العصور الكلاسيكية، محاولة لإصلاح واقع عام لا يرضى عنه أصحاب هذه الكتابات. فالقضية هنا أوسع وأشمل من مجرد تصميم حيز جغرافي أو مكان معين بهدف توفير عيشة رغدة لساكنيه. وإنما تمثل المدنية الفاضلة جزءاً من تصورات كلية متماسكة عن طبيعة الإنسان ذاته وطبيعة الكون الذي يعيش فيه وحدود العلاقة بين الإنسان وهذا الكون الواسع وما فيه من مخلوقات أخرى وعلاقة الإنسان بخالق هذا الكون وشكل القيم والمُثُل والأخلاق التي ينبغي أن تسود حتى يتحقق الانسجام بين كل هذه العناصر وتعم السعادة المنشودة. فبِنية المجتمع النموذجي في "جمهورية أفلاطون" التي تتشكل من طبقات ثلاث رئيسة (طبقة الأوصياء وطبقة الجُنْد أو المقاتلة وطبقة العمال أو أصحاب الحرف) مؤسسة على تصورات فلسفية لطبيعة الإنسان، مفادها وجود ثلاث قوى للنفس؛ أعلاها وأسماها القوة العاقلة أو الناطقة التي توافق طبقة الأوصياء وتتوسطها القوة الغضبية التي تناسب طبقة الجند وتتذيلها القوة الشهوانية التي تلائم طبقة العمال والحِرفيين. كما ينطبق هذا التناغم على طبيعة العلاقة بين طبقات المجتمع وقوى النفس من ناحية وما يسمى بالفضائل الرئيسة التي من المفترض أن يتحلى بها أبناء كل طبقة من طبقات المجتمع. وتصورات الفارابي عن المدينة الفاضلة ومضاداتها مرتبطة كذلك بتصورات دينية وعقدية أشمل عن الألوهية والنبوة والوحي ...إلخ. وفي الكتابات المعاصرة، نجد أيضا أثراً كبيراً لمذاهب فكرية ونظريات سياسية واجتماعية، مثل الاشتراكية والشيوعية والرأسمالية والديمقراطية، في تصورات الكتاب والفلاسفة عن المدينة الفاضلة. ومن هنا نخلص إلى القول بأن النموذج المقترح للمدينة الفاضلة لم يتخذ شكل كتالوج موحد أو ثابت يلتزم به الجميع أياً كان زمانه أو مكانه، على طريقة العولمة الحديثة، وإنما ارتبطت تفاصيل هذا النموذج دائماً بشكل الواقع المراد إصلاحه وبتصورات فلسفية أشمل وأوسع من مفهوم "المدينة" التي يُراد لها أن تكون فاضلة.
- الرفاهية المادية: بالرغم من أن تحصيل اللذة ودفع الألم كانا دوماً جزءاً من تصور السعادة المنشودة لأهل المدينة الفاضلة، إلا أن اللذة والألم لم ينحصر مفهومهما فيما يتعلق بالجسد وما شاكله من الجوانب المادية في الحياة. فالأصل في السعادة أن تتجسد في المعقولات مثل تحصيل العلم وإدراك الحكمة التي تُعين الفرد في السيطرة على رغباته وشهواته. ففي الترتيب الهرمي لطبقات المجتمع في "جمهورية أفلاطون"، يأتي في المقام الأول مُحبو الحكمة وهم طبقة الأوصياء ويليهم في الترتيب الراغبون في تحقيق النصر العسكري وهم طبقة الجند وفي أسفل الهرم تأتي طبقة العمال وهم من يلهثون وراء المكاسب المادية. وفي قراءته المعاصرة لهذا العمل، يقول سلامة موسى "وكانت غاية أفلاطون توفير السعادة للناس، ولكن هذه السعادة لا تُنال بما تملك من عرض الدنيا، بل بما في أنفسنا من خصوبة وزكاوة؛ فسعادته ليست سعادة النهم الذي يلذ له التهام الطعام، بل سعادة الراقص أو العازف الذي تلذ له حركاته وما فيها من خفة ورشاقة؛ فهو لذلك يساوي بين الناس فيما يملكون؛ لأنه لا يرى أن الامتلاك يميز شخصًا على آخر من حيث السعادة." ومن الخصال التي اشترطها الفارابي في رئيس المدينة أو الأمة الفاضلة، أن "يكون غير شَرِه على المأكول والمشروب والمنكوح، متجنبًا بالطبع للَّعب، مبغضًا للذات الكائنة عن هذه.... ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيِّنة عنده."
- إشكالات أخلاقية: بالرغم من أن الإصلاح الأخلاقي كان جزءاً مهماً من تصورات المدينة الفاضلة وقاسماً مشتركاً عبر مختلف العصور، إلا أن بعض هذه التصورات صار إشكالياً بالمفهوم الأخلاقي ذاته؛ مرة بسبب تغير البنية الأخلاقية ذاتها التي تحكم التصور الأشمل أو العالم المعنوي (moral world) الذي ينبثق منه نموذج المدينة الفاضلة، فالمقبول فلسفيا في الفكر اليوناني قد يكون حراماً في شريعة الإسلام؛ ومرة بسبب تغير سياقات الزمان والمكان، فما كان مقبولاً وحَسَناً في الماضي قد يصبح منكراً وقبيحاً في الحاضر، وهكذا. ففي "جمهورية أفلاطون" مثلاً، لا مكان لمؤسسة الأسرة كما هو متعارف ومستقر في كثير من الثقافات والأديان والتي يرتبط فيها رجل وامرأة برباط النكاح ثم تكون الذرية ثمرة طبيعية لهذه العلاقة. فالعلاقة الجنسية بين الرجال والنساء منفتحة في جمهورية أفلاطون، حتى تتلاشى فكرة الأنساب فلا يعرف أحد أبويه أو أولاده، والمصلحة المرجوة هنا ألا يبقى للإنسان انشغال بشيء سوى الاهتمام بالمدينة ومصالحها العليا. وهذه كلها قضايا إشكالية تتعارض بشكل حاد مع الأطر الحاكمة للحياة الفاضلة في الإسلام وفي غيره من الأديان والنظم الأخلاقية. وفيما يتعلق بتغير السياقات الزمانية، أشارت بعض القراءات والتحليلات المعاصرة لعمل أفلاطون إلى أن بعض الممارسات المتعلقة بالرقابة على سكان المدينة ووسائل القولبة والتنميط المختلفة لا يمكن أن تنسجم مع منظومة القيم التي تسود المجتمعات الليبرالية والديمقراطية المعاصرة.