أخلاقيات الذكاء الاصطناعي المفاهيم (1)

د. محمد غالي
08 الجمعة 2021

أخلاقيات الذكاء الاصطناعي المفاهيم (1)

 

يقدم مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق سلسة من المقالات باللغة العربية حول "الأخلاق الإسلامية والذكاء الاصطناعي" والتي نمزج من خلالها بين عمق التحليل وبساطة الطرح، بهدف نشر المعرفة ضمن إطار جمهور أوسع من طلاب الماجستير.

 

محمد غالي

أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام

مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق

كلية الدراسات الإسلامية

جامعة حمد بن خليفة، قطر

 

مقدمة

في خريف 2021، وتحديدا مع نهاية شهر أغسطس، شرعت في تدريس مادة "الأخلاق الإسلامية والذكاء الاصطناعي" لطلاب برنامج الماجستير "الأخلاق التطبيقية الإسلامية " في رحاب كلية الدراسات الإسلامية بجامعة حمد بن خليفة في قطر. ولعل هذه هي المرة الأولى، سواء داخل العالم العربي أو خارجه، يتم تخصيص مادة مستقلة في هذا الموضوع لطلاب مرحلة الماجستير.

ويأتي طرح هذه المادة الجديدة ضمن سياسة البرنامج العامة التي تهتم بطرح القضايا المستجدة ومعالجتها في إطار يمكِّن الطلاب من متابعة النقاشات العلمية والأخلاقية على المستوى العالمي، وكيف يمكن للمنظومة الأخلاقية في الإسلام أن تتعامل مع مثل هذه القضايا والنقاشات ذات الصلة. فقد سبق وأن طرحنا مادة مستقلة في العام الدراسي الماضي عن "أخلاقيات الأوبئة ووباء كورونا في المنظور الإسلامي"، عندما هز وباء كورونا تقريباً كل من يعيش على هذه البسيطة.

وأثناء عملي على إعداد مادة "الأخلاق الإسلامية والذكاء الاصطناعي"، بدا لي واضحاً ندرة الكتابات الجادة باللغة العربية حول هذا الموضوع، بل ربما غيابها بالكلية. فقررت الشروع في كتابة هذه السلسة من المقالات، التي نحاول المزج فيها بين عمق التحليل وبساطة الطرح، بهدف نشر المعرفة ضمن إطار جمهور أوسع من طلاب الماجستير الذين يتابعون محاضراتي في قاعات الدرس بالجامعة.

 

الثورة الصناعية الرابعة

يُعد مصطلح Artificial Intelligence المعروف عربيا بـ"الذكاء الاصطناعي"، ومعه مجموعة كبيرة من المصطلحات ذات الصلة مثل Machine Learning "تعلم الآلة" و Data Mining "التنقيب في البيانات"، من أكثر المصطلحات شيوعاً في عالم اليوم. وشيوع المصطلح هنا ليس مرتبطاً برواج اللفظ من الناحية اللغوية، وإنما هو مرتبط بالثورة التقنية الهائلة التي صنعت ونحتت هذه المنظومة من المصطلحات الجديدة، والمعروفة حاليا بـ"الثورة الصناعية الرابعة".[1]

بالإضافة إلى عامل التراكم المعرفي، من حيث استفادة هذه الثورة الرابعة من معارف ومنجزات الثورات الثلاثة التي سبقتها، يرى الكثيرون بأن هذه النسخة الرابعة والأحدث من الثورات التكنولوجية لا يضاهيها أي شيء قد عرفه البشر من قبل، سواء من حيث حجم التأثير والتغيير المنتظر في حياة البشر أو من حيث كم الفوائد والأخطار المتوقعة، إلى درجة أن بعض الفلاسفة المعاصرين يرى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون آخر إنجازات البشر، حيث سيقوم الذكاء الاصطناعي بإزاحة جنس البشر من مركز القيادة في هذه الحياة لتبدأ "مرحلة ما بعد الإنسان" أو الـ posthumanism، وهذا أمر سنعود إلى تفاصيله في مقالات لاحقة.

 

ما الذكاء الاصطناعي؟

ماذا يعني مفهوم "الذكاء الاصطناعي" تحديداً؟ لعل هذا هو السؤال البدهي الذي ينبغي أن يبدأ به أي حديث عن سؤال الأخلاق في هذا المجال، وذلك عملاً بقاعدة "الحكم على الشيء فرع عن تصوره". لكن هذا السؤال البدهي ذاته مثال واضح للصعوبات التي تحيط بهذا المجال المعقد والذي يلف الغموض كثيراً من جوانبه، ذلك أنه لا يوجد تعريف موحد ومعتمد لمفهوم "الذكاء الاصطناعي". فمثلا، لا يوجد اتفاق على معنى محدد لمفردة "الذكاء" حتى على مستوى البشر، ومتى يمكن أن نصف شخصاً ما بالذكاء. فهل يمثل الذكاء جزءاً أصيلاً من شخصية الفرد وهويته، بمعني أن الشخص يكون ذكياً أو غير ذكي بشكل عام؟ أم أننا يمكن فقط أن نصف شخصاً بالذكاء في مجال معين وسياق محدد، مثل الذكاء في مهنة معينة أو تصرف مخصوص؟ وإذا انتقلنا من الذكاء على مستوى البشر إلى مستوى الآلة، فتحديد مفهوم الذكاء سيكون أكثر تعقيداً، فهل وصف الآلة بالذكاء يفترض أن تتمتع بالذكاء البشري (الذي لم نتفق على حدوده بعد!)، أم أن الذكاء مفهوم معياري يتمثل في القدرة على القيام بـ"التصرف الصحيح"، وينطبق ذلك على الإنسان أو أية كائنات أخرى بما في ذلك الآلة، أم أن ذكاء الآلات له معاييره ومقاييسه الخاصة؟ وتحديد مفهوم "الاصطناعي" مشكل كذلك، حيث إن التداخل الشديد بين دور الآلة ودور الإنسان يجعل من الصعب، بل وأحيانا من المتعذر، التفرقة بين ما هو "طبيعي" أو "اصطناعي".

بالرغم من كل هذه الصعوبات والإشكالات التي تحول دون التوافق على تعريف محدد للذكاء الاصطناعي، إلا أنه يمكن الحديث عن سمتين رئيستين يقعان في صلب هوية كل تقنيات الذكاء الاصطناعي تقريباً، وبدونهما لا يمكن وصف الآلة أو التقنية المستخدمة بأنها تنتمي إلى فئة الذكاء الاصطناعي:

  • الاستقلالية: بخلاف أجهزة الحاسوب التقليدية )الكمبيوتر( التي تقوم على تنفيذ "الأوامر" و"المهام" التي صُنعت وصُممت لأجلها فقط،  تتميز الآلات الذكية بقدر من الاستقلالية تسمح لها مثلاً بتصحيح بعض الأخطاء التي وقعت فيها أو بتطوير قدراتها، وذلك بشكل ذاتي ومستقل ودون تدخل بشري مباشر.
  • القدرات البشرية: تقوم فكرة الذكاء الاصطناعي بشكل عام على اكتساب الآلة لبعض السمات والخصائص التي يتمتع بها بني البشر على وجه الخصوص، مثل إدراك البيئة المحيطة عن طريق حواس مثل السمع والبصر والتواصل اللغوي مع هذه البيئة ووجود ذاكرة تحفظ خبرات التعامل مع هذه البيئة وتستفيد من تراكمها للتعامل مع ما يستجد من مشكلات والقدرة على الاستدلال والتحليل واتخاذ القرارات المناسبة، وقد يصل الأمر أحياناً إلى القدرة على الإبداع.

 

اختبار "تورينج" أو اختبار المحاكاة

لحل الإشكالات النظرية حول صياغة تعريف محدد للذكاء الاصطناعي، اقترح العالم البريطاني ذائع الصيت ألان تورينج (Alan Turing) المتوفى عام 1954[2] اختباراً عملياً يمكن من خلاله تحديد ما إذا كان للآلة نوع من الذكاء البشري. وقد نشر تورينج مقالاً علمياً عن هذا الاختبار في مجلة "Mind"عام 1950 يناقش فيه السؤال المحوري: هل يمكن للآلات أن تفكر؟

وقد خلص تورينج في دراسته إلى أن محاولة الإجابة على هذا السؤال عن طريق تحديد مفاهيم مثل "الآلة" و "التفكير" لن تجدي نفعا، بل إنها تبدو سخيفة. وبالتالي طرح بديلاً عملياً، وهو ما يعرف الآن بـ"اختبار تورينج" أو "اختبار المحاكاة"، والذي تقوم فكرته الأساسية على وجود ثلاثة أطراف:

  • الطرف الأول هو الآلة التي يُطلب منها القيام بمهام معينة
  • الطرف الثاني هو إنسان يُطلب منه القيام بنفس المهام
  • الطرف الثالث هو الشخص المحقق أو الممتحن الذي سيقوم باختبار الطرفين الأول والثاني

والهدف من هذا الاختبار هو معرفة ما إذا كان الطرف الثالث قادراً على تحديد هوية الطرفين والتفرقة بين ما صدر عن الآلة وما قام به الإنسان. ولضمان فعالية الاختبار، اقترح تورينج عدداً من الاحتياطات حتى لا يسهل على الطرف الثالث التمييز بين الطرف الأول والثاني بناءً على عوامل بعيدة عن تقييم أدائهما أثناء الاختبار.

فعلى سيبل المثال، لا يُسمح للطرف الثالث برؤية الطرفَيْن المشاركين في الاختبار بشكل مباشر، كما لا يُعتمد على الإجابات الشفهية أو المكتوبة بخط اليد، لأن كل هذه الأمور ستكشف عن هوية الآلة دون الحاجة إلى تقييم الإجابات المقدمة في الاختبار. فبعد أخذ الاحتياطات اللازمة، إذا لم يتمكن الطرف الثالث من التفرقة بين عمل الآلة و أداء الإنسان في الاختبار فهذا يعني أن الآلة قد تصرفت بشكل ذكي لدرجة جعلت من الصعب التمييز بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي.

وعليه، فقد يقول البعض إن إجابة السؤال السابق (هل يمكن للآلات أن تفكر؟) هي نعم في هذه الحالة، والعكس صحيح. إلا أن هناك من يستشكل مجرد طرح السؤال ذاته، ويقول ما الفرق بين هذا السؤال و أسئلة أخرى مشابهة مثل "هل يمكن للغواصات أن تسبح؟" و "هل يمكن للطائرات أن تطير؟"، ويرى أن العامل اللغوي نفسه قد يؤثر على طبيعة الإجابة. فإذا كانت السباحة في لغة معينة، مثل الإنجليزية كما يرد تعريف السباحة في بعض قواميسها، تعني القدرة على الحركة داخل المياه باستخدام أعضاء أو أطراف من الجسد فسنصل إلى خلاصة مفادها أن الغواصات لا تسبح، لأنها لا تملك هذه الأطراف أو الأعضاء الجسدية. وسيختلف الأمر بالنسبة للسؤال الثاني إذا ما عرَّفنا الطيران بأنه القدرة على الحركة في الهواء دون أن يتضمن التعريف اشتراط أن تتم هذه الحركة عن طريق استخدام الأجنحة باعتبارها جزءاً من جسد الطائر، مما يعني القبول بفكرة أن الطائرات تطير في الهواء. وعلى هذا المنوال، فسؤال "هل يمكن للآلات أن تفكر؟" سيعتمد على ما يعنيه مفهوم "التفكير" في اللغة وهل يشترط التعريف استخدام الدماغ لممارسة هذا النشاط أم لا.

 

الغموض المفاهيمي (conceptual ambiguity)

سنلحظ في المقالات التالية أن هذا الغموض المفاهيمي، الذي يكتنف كثيرا من المصطلحات المتداولة في هذا المجال، بدءاً بمصطلح الذكاء الاصطناعي ذاته، له أثر كبير على الخطاب الأخلاقي ويجعله شديد التعقيد والتركيب، بل ومُلغِزاً في بعض الأحيان. فمن ناحية، يميل بعض المهندسين وعلماء الكمبيوتر إلى الجانب العملي البراجماتي، حيث التركيز على مخرجات الذكاء الاصطناعي وتطوير آلات ذكية تتمكن أحياناً حتى من التفوق على القدرات البشرية ولا يأبهون كثيراً بالتنظيرات والجدالات الفلسفية حول مفاهيم مركزية مثل الذكاء والتفكير والوعي والإدراك والاستقلالية ... الخ. وفي المقابل، يهتم فلاسفة الأخلاق عموما بالجانب التنظيري وتحرير المفاهيم ويرون أن المقاربة البراجماتية قد تنطوي على إشكالات كبيرة، فوصف الآلة بصفات أقرب إلى الطبيعة البشرية، بل ويُعد بعضها من الخصائص المميزة للجنس البشري، له أثر كبير في الحكم الأخلاقي على هذه الآلات وما ينتج عنها من تصرفات، وتحديد المسؤوليات والتبعات الأخلاقية والقانونية. وبالتالي، لا بد من الوعي بهذا الغموض المفاهيمي عند تحليل الخطاب الأخلاقي للذكاء الاصطناعي وضرورة معرفة خلفية مَن يتحدث عن الجوانب الأخلاقية وماذا يعني تحديداً بالمصطلحات التي يستخدمها في خطابه، لأن معظم التعريفات ليست محل إجماع أو اتفاق بين المشاركين في هذا الخطاب.

 

[1]   يتم توصيف هذه الثورات الأربعة بشكل عام على النحو التالي:

تمكنت الثورة الصناعية الأولى من تسخير قوة البخار والماء لـ"ميكنة الإنتاج" production mechanization ، واستخدمت الثورة الثانية القوة الكهربائية للتحول إلى ما يعرف بـ"الإنتاج الضخم" mass production، واعتمدت الثورة الثالثة التقنيات الإلكترونية وتكنولوجيا المعلومات لـ"أتمتة" الإنتاج production automation. أما الثورة الرابعة فقد استخدمت هجيناً من التقنيات الفائقة، تحت مسمى الذكاء الاصطناعي، التي أذابت كثيراً من الفروق والحدود المتعارف عليها سابقاً، وعلى رأسها الفرق بين الإنسان بوصفه كائناً عاقلاً مفكراً والآلة التي أضحت هي الأخرى ذات ملكات عقلية وفكرية، بل وقدرة على التعلم تفوق قدرة الإنسان عموماً، بما في ذلك عين الشخص الذي صنع هذه الآلة.

[2] يعد ألان تورينج (Alan Turing) واحداً من أهم رواد الذكاء الاصطناعي الأوائل، وهو من طينة العلماء الموسوعيين الذين تبحروا وأجادوا في أكثر من علم وتخصص، أمثال الكندي وابن سينا وابن رشد في تاريخنا الإسلامي. فهو عالم متخصص في الكمبيوتر والرياضيات وعلم المنطق وتحليل الشفرات والبيولوجيا النظرية وغيرها. وقد أسهمت إنجازاته في مجال علوم الكمبيوتر وفك الشفرات في انتصار بريطانيا والحلفاء على النازيين في الحرب العالمية الثانية.