أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2) البدايات الكلاسيكية: الآلات ذاتية الحركة (automata)

د. محمد غالي
15 الجمعة 2021

يقدم مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق سلسة من المقالات باللغة العربية حول "الأخلاق الإسلامية والذكاء الاصطناعي" والتي نمزج من خلالها بين عمق التحليل وبساطة الطرح، بهدف نشر المعرفة ضمن إطار جمهور أوسع من طلاب الماجستير.

 

محمد غالي
أستاذ الأخلاق الطبية والحيوية في الإسلام
مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق
كلية الدراسات الإسلامية
جامعة حمد بن خليفة، قطر

 

استعرضنا في المقال السابق  النقاشات التي دارت حول مفهوم الذكاء الاصطناعي، وخلصنا إلى القول بضرورة الوعي بظاهرة الغموض المفاهيمي (conceptual ambiguity) في هذا المجال عند دراسة الخطاب الأخلاقي. ونستعرض في هذا المقال الإرهاصات الأولى والبدايات التاريخية للذكاء الاصطناعي.

 

البدايات الكلاسيكية للآلات "الذكية"

بالرغم من أن الاستعمال الاصطلاحي لمفهوم "الذكاء الصناعي" حديث نسبياً كما سنشرح في مقال لاحق، إلا أن الرصد التاريخي لأصول هذا المجال غالباً ما يتضمن أمثلة يعود تاريخها إلى الأزمنة الكلاسيكية، وهي في الغالب عبارة عن محاولات تطوير آلات "ذكية" لها نصيب من سمات الذكاء الاصطناعي التي ذكرناها في المقال السابق، وخاصة إمكانية عملها بقدر من الاستقلالية والقيام بمهام ليست في الأصل من طبيعة الآلة وإنما تتطلب قدرات كائن حي كالحيوان والإنسان. وأهم مثال في هذا الصدد هو ما يعرف بالآلة ذاتية التشغيل أو الأوتماتون (automaton)، وهي النسخة الكلاسيكية الأقرب لما نطلق عليه اليوم الإنسان الآلي أو الروبوت. فكتب التاريخ تعج بأمثلة من هذه الآلات في تاريخ اليونان وبابل والصين، منها آلات على هيئة طيور تغرد أو تحلق في الهواء أو ساعات مائية ... إلخ. وغالباً ما كانت تستخدم هذه الآلات بغرض التسلية والمتعة، كما في بعض العروض المسرحية، وإبهار عامة الجمهور أو أشخاص بعينهم، وخاصةً ذوي النفوذ من الملوك والأمراء وأصحاب الجاه، حتى يُظهر مَن قام بتطوير هذه الآلات أنه يتمتع بقدرات خارقة.

وظهرت الكتابات حول هذا النوع من الآلات في تاريخنا الإسلامي ضمن ما يعرف بـ"علم الحِيَل" وهو أقرب شيء إلى علم الميكانيكا المعاصر. ويقوم هذا العلم على استعمال الحيلة (متمثلةً في العقل والقدرة على الإبداع) بدلاً من القوة (متمثلةً في القدرات البدنية والعضلية للإنسان أو الحيوان). وبالتالي، يمكن عن طريق هذا العلم تنفيذ مهام كثيرة أو ما أسموه "الفعل الكبير" دون جهد جسماني مضنٍ من طرف البشر أو الحيوانات.

ولعل أهم الشخصيات البارزة في هذا المجال هو بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل الجزري (ت. 1206) الذي ألف كتاباً بعنوان "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل".



 

كتاب بديع الزمان الجزري "الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل"، تحقيق د. أحمد يوسف الحسن، معهد التراث العلمي العربي، جامعة حلب، 1979.

 

 وتحدث الجزري عن أصالة عمله في هذا الفن قائلاً "وألفت هذا الكتاب يشتمل على بعض خروق رقعتها وأصول فرعتها وأشكال اخترعتها ولم أعلم أني ُسُبقت إليها". كما أشار إلى طبيعة الاصطلاحات التي استعملها في الكتاب وكيف حاول الجمع بين الالتزام بما توافق عليه أهل الفن من اصطلاحات وبين ما تفرضه خصوصية زمانه وعصره من نحت اصطلاحات جديدة، فقال "واستعملت فيما وضعته أسماء أعجمية أتى بها السابق من القوم واستمر عليها اللاحق إلى اليوم وألفاظاً أخر يقتضيها الزمان، إذ كان لأهل كل عصر لسان ولكل طائفة من أهل العلم اصطلاحات بينهم معروفة واتفاقات عندهم مألوفة".

وقد أضاف الجزري في الكتاب مخططات ورسومات توضيحية لخمسين آلة قام بصناعتها، وأطلق على كل منها اسم "شكل"، وكان من بينها آلات ذاتية التشغيل مثل الساعات المائية التي وضع فيها نظام تنبيه ذاتي. كما أشار الجزري إلى صناعته لآلات على هيئة بشرية على شاكلة ما يعرف اليوم بـ "humanoid robots" للقيام بمهام مختلفة مثل تشغيل الموسيقى والتنبيه عند طلوع الفجر وخدمة من يقوم بغسل يديه أو أداء الوضوء، وهو ما يمكن تسميته تجاوزاً بـ"روبوت الوضوء.

 

الإبريق الذي صنعه الجزري في صورة آلة "ذكية" تستخدم في الوضوء، دون الحاجة إلى وجود خادم أو جارية لصب الماء.

 

وذكر الجزري أنه كان صنع آلة على شكل إبريق خاص، لأن الملك الصالح كرِه أن يصب الماء على يديه خادم أو جارية عند الوضوء، فأراد أن يصنع له الجزري آنية ينصب منها الماء على يديه بشكل آلي ليتوضأ به. وللفقيه المالكي الإمام شهاب الدين القرافي (ت. 1285) إشارات لطيفة في هذا الباب توضح اهتمامه بهذا النوع من الآلات، بل وذكر أنه قام بصنع بعضها بنفسه.

 

الجوانب الأخلاقية

تهتم جل الدراسات التاريخية المتاحة بأسئلةٍ تتعلق بالجانب العلمي والمعرفي لهذا النوع من الآلات ومدى صلتها بالروبوتات الحديثة ومحاولة التفرقة بين الآلات التي تم صنعها بالفعل والآلات الأسطورية التي عاشت فقط في خيال من كتب عنها والأدوار التي لعبتها هذه الآلات في المجتمع. لكن المعلومات المتعلقة بالقضايا الأخلاقية المرتبطة بتطوير هذه الآلات واستخدامها في الواقع شحيحة للغاية، وكثير من المصادر التاريخية لا تشير إليها من قريب أو بعيد.

لكن هذا لا يعني بالضرورة أن صناعة واستخدام مثل هذه الآلات لم تنتج نقاشات أخلاقية في حينها وإنما الأمر في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة. فبعض المصادر تشير بالفعل إلى وجود قضايا أخلاقية، وإن وردت أحياناً على شكل افتراضات وتكهنات، كما فعل أرسطو في كتاب "السياسة" عندما تحدث عن فرضية عمل كافة الآلات بشكل ذاتي وكيف أن هذا، لو تحقق بالفعل، يمكن أن يؤثر في تركيبة المجتمع، وخاصةً في العلاقة بين السادة والعبيد، وفي عالم الوظائف والمهن، حيث يمكن أن تحل الآلات محل البشر. كما أشار بعض الباحثين إلى العلاقة بين القيم السائدة في المجتمع والأهداف والغايات التي كان لأجلها يتم صنع هذا النوع من الآلات، فبعضها كان يُصنع لتيسير عبادة الآلهة والبعض الآخر كان لغرض تيسير أداء الفرائض والشعائر الدينية، وهكذا.